المخ: سجل للماضي أم خريطة للمستقبل؟
بقلم د. جو ديسبنزا
كل الأشياء التي هي جزء من تكويننا --"أنت و أنا" – أفكارنا,أحلامنا ,ذكرياتنا, آمالنا ,مخاوفنا, مهاراتنا, عاداتنا ,آلامنا , و أفراحنا – محفورة في شبكة حية مكونة من مليار خلية عصبية.
اذا تعلمت اليوم معلومة صغيرة ,ستقوم الخلايا العصبية الصغيرة بعمل روابط جديدة بينها , و ستتغير " أنت" . تترك الصور التي نخلقها في عقولنا أثناء تفكيرنا في الأمور المختلفة بصمة في الحقول العصبية الشاسعة , و التي تساهم في هويتك المسماة ب " أنت".
كيفية ترتيب خلايانا العصبية بطريقة محددة بناء على ما نتعلمه,ما نتذكره,ما نختبره, ما نشعر به,ما نتخيله, و ما نفكر فيه عن أنفسنا يعرفنا كأشخاص و ينعكس في ترابط خلايانا العصبية. نحن في تغير دائم.
المخ هو عضو التغيير.
يبين مفهوم المرونة العصبية في علم الأعصاب أن المخ يغير نفسه في كل مرة نتعلم شيئاً جديداً. إنه يتغير أيضاً عندما نمر بتجربة جديدة.(يطرح هذا السؤال نفسه:" كم أتذكر مما تعلمته حديثاً و كم عدد التجارب الجديدة التي خضتها مؤخراً؟)
تتغير المادة الرمادية في مخنا عندما نختار تغيير سلوكنا لنعيش حياة أفضل.بصياغة أخرى,عندما نغير عقلنا فإن المخ يتغير بالفعل..و عندما نغير المخ فإن العقل يتغير..
اكسر عادة أن تتصرف على طبيعتك.
ما أقصده هو,بالنسبة لنموذج علم الأعصاب فإن العقل هو المخ في حالة الحركة.العقل هو المخ في حالة العمل.إن العقل هو نتاج نشاط المخ أثناء تفاعله مع الحياة. فمن خلال مئة مليار خلية عصبية مترابطة بشكل متداخل , فإنه من الواضح أن لدينا القدرة على انتاج مستويات مختلفة من العقل.
يمكن القول أننا نستطيع جعل المخ يعمل بطريقة مختلفة لأننا نستطيع التأثير على جعل المخ يعمل بترتيب مختلف , بأنماط مختلفة و بتراكيب مختلفة من أجل انتاج حالات متباينة من العقل.
على سبيل المثال, العقل الذي نستخدمه في علاج مرضانا مختلف عن العقل الذي نستخدمه لقيادة السيارة.نجعل المخ يعمل بطريقة مختلفة عندما نغسل أسناننا مقارنة بعمله عندما نلعب آلة موسيقية. بنفس المعنى, فإننا نخلق عقلاً مختلفاً عندما نلعب دور الضحية و بالعكس عندما نظهر الفرح. كل ذلك يحدث,ببساطة, لأننا قادرين على اجبار مجموعات من الخلايا العصبية على العمل بطرق فريدة.
منذ ما لا يزيد عن الثلاثين أو الأربعين عاماً , كان هناك اعتقاد يجمع عليه العلماء في علم البيولوجي أن المخ له تركيبة ثابتة, مما يعني أننا جميعاً قد ولدنا بعدد ثابت من الخلايا العصبية و أن النتيجة النهائية لحياتنا أننا سنصبح مثل والدينا تماماً.لقد كانت الحقيقة المتعارف عليها أن هذا العضو الرقيق غير قابل على تحديث تركيبته.لكن بمساعدة التكنولوجيا الحديثة في الأشعة التشخيصية أصبح الأمر واضحاً أنه بالإمكان جعل المخ يعمل بطريقة مختلفة.في الواقع,أثبتت الدراسات في جامعة وسنكونسون أن شيئاً بسيطاً مثل الانتباه أو التركيز العميق هي مهارة تماماً مثل لعب الجولف أو التنس.بمعنى آخر, كلما تمرنت على الحضور الواعي أو التركيز فإنك ستفعل ذلك بشكل أفضل.
بالأضافة إلى ما سبق, أثبت التصوير التشخيصي للمخ أنه يمكن تغيير المخ فقط من خلال التفكير بطريقة مختلفة. على سبيل التجربة, تم تقسيم عدد من الأشخاص الذين لم يعزفو البيانو من قبل إلى مجموعتين.قامت المجموعة الأولى بالقيام بتمارين عزف بيد واحدة, و نتيجة لهذه التجربة الجديدة فإن أمخاخهم تغيرت بالفعل. تظهر نتائج التصوير التشخيصي للمخ قبل و بعد التجربة أنه تم تنشيط مناطق جديدة في المخ.
الخلاصة أنهم لم يخلقو "عقلاً" جديداً فقط و إنما تم انتعاش روابط جديدة في المخ. من ناحية أخرى, طلب من المجموعة الثانية بتخيل هذه التمارين عقلياً لنفس المدة الزمنية , فحدث تنشيط لمناطق جديدة في المخ كما حدث مع المجموعة التي مارست التمارين فعلياً.
بصيغة مبسطة,عندما نقوم بالتركيز و الانتباه, فإن المخ لا يستطيع التفرقة بين ما يحدث في خيالنا و ما يحدث في العالم الخارجي. أثبتت الدراسات نتائج مماثلة أن هذا التأثير لا يحدث في العقل فقط و إنما يحدث في الجسم أيضاً.
أثبتت الاختبارات أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين العقل و الجسد--- في الحقيقة, لقد غير العقل الجسد.في إحدى الدراسات, طلب من المشاركين في الدراسة أن يقوموا بعمل تمرين للأصابع عن طريق شد زنبرك يومياً لمدة ساعة و ذلك على مدى أربعة أسابيع.كانت هناك زيادة بنسبة ثلاثين بالمئة في القوة العضلية لديهم.هذا شيئ عادي.
لكن, المجموعة الثانية لم تقم بعمل أي شيء.
لقد قامو بنفس التمارين و لكن بصورة ذهنية فقط لنفس المدة و كانت النتيجة هي زيادة في القوة العضلية لديهم بنسبة 22 بالمئة بالرغم من عدم قيامهم بأي مجهود عضلي.
هذه الأبحاث غاية في الأهمية لأنها اظهرت أن الجسم و المخ تغيروا فعلياً قبل قيامهم بعمل التمارين.بصياغة أخرى, بدون القيام بأية تمارين فعلية ,أصبح الجسد أقوى ليعكس جهداً ذهنياً و ليس جهداً جسدياً.
التجربتان المذكورتان تظهران أن التغيرات الجسدية ممكنة عن طريق أفكارنا,نوايانا و تأملاتنا.
اذاً, عندما تستقطع وقتاً من جدولك المزدحم و تبدأ بإرادتك بتخيل واقع جديد, أو التخطيط لحياة جديدة, أو وضع هدف جديد , أو ترتيب حدث تريد تجربته في المستقبل,تذكر حينها أن مخك يقوم بإعادة ترتيب نفسه بناء على ما ترغب في تحقيقه و أن جسدك يعاد تهيئته من أجل أن يكون مستعداً لذلك الحدث الجديد.
و لذلك, فإذا تمرنت ذهنياً بشكل يومي على ما تريد أن تكون عليه تجربة ما (تماماً مثل تجربة عازفي البيانو), فإن هناك تغييرات داخلية قد بدأت بالفعل في الحدوث و أنك قد بدأت بتحقيق حلمك.
بتطبيق هذا الفهم على نموذج الكم, و الذي ينص على أن العقل له تأثير على عالمنا الحقيقي (الفكر يخلق الواقع) , سنستطيع حينها استكشاف هذه الفكرة: أنه اذا اظهر المخ و الجسم تغيرات مادية ليصبحو مماثلين لما سيكونون عليه اذا مررنا بتجربة معينة قبل أن نمر بهذه التجربة, فإنه من الناحية الفرضية ستحدث لنا هذه التجربة!
ترجمة سمية الجمال